منذ بداية الاشتباكات أمام مسجد النور في العباسية و أنا أفكر أن مواجهة مع الأهالي، حتى لو كان دخل بينهم مأجورون، ليست هدفا، و لا فكرة جيدة الآن أو في أي وقت. "مش مهم مرتب لها أو لأ، لكن الواضح أننا في كماشة، و لازم نخرج من هنا علشان الضرب يقف". لكن لأبدأ من حيث انتهت "أختي" عالية:
دخلت معهم سيارة المواطن المتطوع بإيصالنا للشرطة العسكرية: حسن، و كريم على جانبي في الخلف، و آخر اسمه سيد (قد تكون له صفة رسمية كما سمعت من إنترنت) بجانب السائق.سأستخدم أسماءهم الأولى حتى الآن على الرغم من أني عرفت الكثير من بياناتهم الشخصية خلال الليلة. استقبلني حسن بتهديدي بمطواة قرن غزال، و لن يتركها من يده إلا بعد ساعات في المخابرات العامة. يبدو على حسن أنه الأكثر إدراكا لخطورتي، فهو متأكد تماما أنني من 6 أبريل، و الأهم أنني "الجاسوس" الذي ظهرت صوره في كل مكان على إنترنت. "خربتوا البلد. ستة شهور و حالنا واقف و سلمتونا للأمريكان". عبارة كهذه تظهر بين كل لطمة أو ضربة على الرأس باليد أو بالمطواة المغلقة معظم الوقت.
لحق بنا بعد عدة أمتار شاب أوقف السيارة و ركب بجانبنا معلنا أنه من 6 أبريل. شعرت بالامتنان لشجاعته و لأن هذا قد يعني أنني لن أختفي تماما. بعد عدة أمتار أخرى، خرج الشاب من السيارة و اختفى بين المباني عندما هدده حسن بالسلاح الذي في يده. أكد هذا لحسن أنني فعلا "الزغلول الكبير"، أهم قيادات 6 أبريل (ابقى اسمع الكلام من هنا و رايح يا ماهر). فكرت أن كوني جاسوسا قد يحميني من عنف عشوائي و مجنون أعرف أن تحريضا أتى أساسا من الرويني و المجلس العسكري (و هو الأهم بما لا يقارن باعتبارهم السلطة المطلقة في مصر) و على مر الشهور السابقة من كثير من الإعلام فعل فعله، و أن الوقت ليس وقت العقل، و لا وقت التهور و الهرب أيضا. علي إطالة اللحظة القائمة حتى تتغير الظروف، آملا للأحسن.
الطريق مزدحمة. قرر حسن أن نترجل من السيارة. تطوع أحد المارة الشباب (لابس تي شيرت بيضا و بنطلون فوق الركبة رمادي و أخضر و نظارة نظر سوداء) ليضع كلابشات كانت معه بالصدفة في يدي. تمكن من يدي اليسرى و أقنعته و الباقين أن يتركوا اليمني حرة (أنا أعسر). كنت رفضت حتى الآن إظهار بطاقتي الشخصية أو هاتفي، و لم يتمكنا من العثور عليهما أثناء التفتيش. كانت حقيبتي الفارغة مع عاليا و لم أتمكن قبل أن أفترق إلا من إخراج تي شيرت إضافية حملتها معي بدل الممزقة التي أرتديها. دخلنا وحدة الشرطة العسكرية. أخرجت ما في جيوبي وسط دستة من مجندي الشرطة العسكرية و ملازم و حسن و الباقين: سلسلة مفاتيح بها أيضا ذاكرة فلاش تحوي أسرار التجسس؛ بطاقة شخصية؛ بطاقة حساب بنك؛ 253 جنيها؛ هاتف محمول و شاحن له. الغرفة لا زالت تحمل اسم القائد الأعلى حسني مبارك، كما قال كثيرون قبلي اعتقلتهم الشرطة العسكرية. الثورة لم تصل هنا، كما لم تصل إلى من قبضوا علي. يقرر الرائد أن الجاسوسية أكبر من نطاق عمل وحدته، و أنه من الأفضل أن يأخذوني إلى التحريات العسكرية القريبة. صاحب الكلابشات اختفى، و هم لم يتمكنوا من فكها.
يصطحبنا عسكري من الشرطة العسكرية إلى التحريات العسكرية في شارع ولي العهد. لا يكترث من على البوابة إلا بالتأكد من جنسيتي (غالبا القواعد العسكرية لا تسمح بدخول الأجانب). أثناء ذلك يصورني الشباب بهواتفهم باعتباري الصيد الكبير. ترفض التحريات العسكرية استقبالي، و يبدأ في التأكد لدي أن أحدا من السلطة لا يريدني. "خدوه".
أخفيت سروري و قلقي من أن أظل فترة أطول مع عصبة المواطنين الغيورين على مصالح الوطن نتيجة التحريض، إلا أن القرار كان بتسليمي إلى المخابرات العامة في سراي القبة. نسير إلى المخابرات على امتداد شارع ولي العهد بدلا من الركوب لأنه أمر يسمح بانضمام المزيد من الناس. لم يتبعنا طوال المسيرة إلا اثنين أو ثلاثة، منهم من كان غاضبا لدرجة أنه استعمل آلة حادة قشرت مساحة من الجلد أسفل عنقي. لا يزال حسن يحمل قرن الغزال، إلا أنه ستختفي بوصولنا المخابرات، هي و ما معي من نقود.
خلال الطريق، يشرح لي حسن، بكثير من الغضب، نظريته الكاملة عن استهداف العرب، و هي في نظري تشط قليلا: إسرائيل؛ أمريكا؛ هيلاري كلينتون؛ صربيا؛ تمويل؛ تدريب؛ زميلتي هدى نصر الله المحامية التي تتصل الآن، ثم طبعا حسن نصر الله؛ إيران؛ الشبعة؛ الرجل الكبير. عارفه؟؛ خربتوا البلد.
دخلت وحدي المخابرات. حضر ضابطان. سلام و حديث في غرفة الاستقبال. شرحت لهما أنني هنا بهذه الهيئة لأنني الجاسوس، و ابتسمت و ابتسمأ. سألا عن خلفيتي و عن ظروف حادثة الليلة. طلبت فك الكلابشات و مكالمة هاتفية، و تلقيت وعدا بمكالمة و بمحاولة فك الكلابشات و لم أحصل على أيهما. ظللنا نتحدث طيلة نصف الساعة (لا بد أن الساعة الآن تجاوزت الحادية عشرة مساء) أبلغني بعدها أنني لا أعنيهم في شيء، و أنه سيطلب تسليمي للشرطة التي قد تقرر إحالتي للشرطة العسكرية فالنيابة العسكرية.
تأخذني سيارة الشرطة إلى باب آخر في نفس مجمع المخابرات. لا يظل معي من الشباب الذين قبضوا علي إلى حسن و كريم، و اللذان تتعامل معهما الشرطة باعتبارهما مساعدين أجلس بينهما في السيارة حتى لا أهرب، و هما من الآن فصاعدا مبلغين عني أمام الشرطة. يحقق معي مسؤول يرتدي بدلة مدنية و ربطة عنق داخل المكتب، و يحاول الاستدلال على من كانوا معي "يا إما هتشيل الليلة لوحدك". بعد أن تركتني المخابرات و اتضح أنني لست جاسوسا، تحولت اتهامات حسن إلى حقيبة المتفجرات التي كانت معي و التي لم يستطع تحريزها وسط الفوضى. أنتظر في غرفة وحدي مع كاميرا مراقبة. أغفو فيها قليلا لأرتاح و أستعد لما هو آت. أستيقظ و أستخدم مفتاح حقيبة سفر في سلسلة مفاتيحي لتطفيش الكلابشات (جاسوس بقى!). أرتدي التي شيرت الإضافية و أنتظر.
يأخذوني إلى قسم الأميرية، و هنا أتعرف على بيانات حسن و كريم الكاملة. أسمائهم. مناطق سكنهم، و ماذا يعملون. حسن يملك شركة للاستيراد و التصدير، و كريم يعمل في شركة للسياحة على ما أذكر. يرفض قسم الأميرية استلام البلاغ لأنه الواقعة لم تحدث في دائرة القسم. نعود إلى مكتب المخابرات، و أنتظر داخله ساعة أخرى، ثم مزيدا من الوقت في السيارة بالخارج، حتى تأتي قوة من قسم الوايلي لاستلامي.
في لحظة صفاء، سألني أمين الشرطة إن كنت خدمت في الجيش. أجبت بالنفي. شرح لي حسن أن هذه هي المشكلة، و كأنه اختار أن يخدم في الجيش، و كأنني اخترت غير ذلك. أجد صعوبة في تقدير مشاعره الوطنية، خصوصا و أنه يجزم أنه رآني و معي المتفجرات و المخدرات في أرض المعركة عند مسجد النور. عند هذه اللحظة، و أمام هدوئي الظاهري، و رفض كل الجهات استلامي، عاودت الحديث مع حست و كريم اللذان بدءا يشكان في صحة موقفيهما، و إن كانا قد ظلماني. لا أعرف إن كنت سأنتهي بحكم عسكري في تهمة سياسية أو في تهمة مخدرات أو سلاح، لكني أضمن لحسن أنني أرغب في مزيد من الحديث معه، عاجلا أم آجلا. أحصل على رقم قال أنه رقم هاتفه، و أطلب منه إبلاغ أخي أحمد بما حدث و بالمكان الذي سأنتهي فيه. أرى القلق و الخوف في عينيهما و هما يخفيان عني أي معلومات تدل على شخصيتهما، و لا أعترض عندما يخبرني أحدهما أنه يسكن في المطرية و أنا أعرف أنه من كلوت بك، و أمنع نفسي من الابتسام و الآخر يخبرني أنه من جاري في منشية البكري و أنا أعرف أنه من عين شمس. أتركهما في حيرة.
تأخذني قوة الشرطة إلى قسم الوايلي، و هناك أجد من الترحاب في القسم نصف المجدد بعد الحريق ما يدهشني. أدرك دائما أن جزءا كبيرا من تعامل الشرطة مع المواطنين متعلق بالطبقة التي ينتمون إليها، و كنت طوال الوقت منذ تسليمي للسلطات واعيا بذلك كما تعودت أن أستخدمه في تعاملي مع الشرطة طوال عمري. يشرح الرائد أيمن صالح رئيس المباحث أنه في انتظاري و معه أوامر واضحة من مديرية الأمن بسرعة إنهاء إجراءات الإفراج عني قبل طلوع النهار. أدرك أن تضامن الناس في الخارج بدأ يظهر تأثيرا. أثناء حديثنا، يخبرني الرائد أن مندسين بين الثوار قذفوا عبوات غارات ميسلة للدموع على الجانب الآخر و على الضباط الواقفين، و أن من بينهم من كان يحمل بندقية خرطوش تضرب كرات صغيرة أصابت أحد الناس إصابة بالغة. هذا الغاز و هذه البندقية هي بالضبط ما سمعت الثوار يحكون أن الجانب الآخر استخدمها. يبدو أن أحدهم كان يتنقل بين الجانبين.
ينهي الرائد إجراءات الاستعلام عني ليتأكد أنني لست مسجلا خطرا، و أنني لست مطلوبا لتنفيذ أية أحكام، و أن جهاز أمن الدولة لا يريدني (انتم للسا هنا؟). خطوط الهاتف لا تعمل، و الحواسيب معطلة و كلنا مرهقون. يسألني الضابط المعاون إن كانت علي أحكام أو ما يستدعي إيقافي، فشرحت له أن آخر مرة قبضت علي الشرطة كانت في سنة 2000 أثناء عودتي لمنزلي في مثل هذا الوقت. ينهون الإجراءات و أخرج من القسم.
أثناء عودتي للمنزل، يوقفني كمين الشرطة في نفس المكان الذي أوقفني سنة 2000 (انتم كمان رجعتم تاني؟) بعد أن لاحظ ملابسي الممزقة.
جاي من فين؟
من قسم الوايلي؟
ليه؟
كان فيه خناقة في الشارع. ناس مسكوا في خناقي من غير ما أعمل لهم حاجة
و قدمت بلاغ؟
لأ. اتصالحنا في المباحث.
ماشي.
حرصت على الدقة في الأسماء و الأشكال و الأوقات. الموقف كله كان مشحونا. آمل أن لا أكون فقدت الكثير من التفاصيل.